
فِي زُقَاقٍ مُظْلِمٍ، بَدَأَتِ الْحِكَايَةُ… لَيْسَ مُجَرَّدَ لِصٍّ عَادِيٍّ، بَلْ رَجُلٌ تَحَوَّلَ إِلَى أُسْطُورَةٍ سَوْدَاءَ أَرْعَبَتِ الْجَمِيعَ. كَيْفَ يَصْنَعُ الظُّلْمُ سَفَّاحًا؟ وَكَيْفَ تَنْتَهِي قِصَّةُ رَجُلٍ طَارَدَتْهُ الْعَدَالَةُ؟ ابْقَ مَعَنَا لِتَكْتَشِفَ الْجَانِبَ الْمُظْلِمَ مِنْ مَحْمُودِ أَمِينِ سُلَيْمَانَ أو كما جاء اسمه برواية اللص و الكلاب سعيد مهران .
في أَزِقَّةٍ ضَيِّقَةٍ تَنْبُضُ بِالْحَيَاةِ، تَتَشَابَكُ الْحِكَايَاتُ وَتَتَصَاعَدُ أَنْفَاسُ الْكَفَاحِ. هُنَا، فِي قَلْبِ حَيٍّ شَعْبِيٍّ فِي الْقَاهِرَةِ، وُلِدَ مَحْمُودُ أَمِينُ سُلَيْمَانَ. شَابٌّ يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ آمَالَ أُسْرَتِهِ الْبَسِيطَةِ، وَأَحْلَامًا لَا تَتَّسِعُ لَهَا جُدْرَانُ الْحَيِّ.
دَاخِلَ جُدْرَانٍ مُتَوَاضِعَةٍ، تَتَجَلَّى الْمُعَانَاةُ الْيَوْمِيَّةُ. مَحْمُودٌ، شَابٌّ طَمُوحٌ، يُحَاوِلُ مُوَاجَهَةَ حَيَاةٍ أَقْسَى مِنْ صَبْرِهِ. وَالِدَتُهُ، بِوَجَعِهَا الصَّامِتِ، وَأُخْتُهُ الصَّغِيرَةُ بِأَلْعَابِهَا الْبَسِيطَةِ، يَعْكِسُونَ مَشْهَدًا مُتَكَرِّرًا لِلْفَقْرِ الَّذِي يَأْبَى أَنْ يُغَادِرَ حَيَاتَهُمْ .
وَفِي اللَّيْلِ، عِنْدَمَا يَخْتَفِي ضَوْءُ الشَّمْسِ، تَظْهَرُ إِغْرَاءَاتُ الظَّلَامِ. هَمَسَاتُ الشَّبَابِ عَلَى الْأَرْصِفَةِ، وَالْحَدِيثُ عَنِ الْمَالِ السَّهْلِ، كَانَتْ تَطْرُقُ مَسَامِعَ مَحْمُودٍ. لَكِنَّهُ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يُوَاصِلُ طَرِيقَهُ رَافِضًا النِّدَاءَ، رَغْمَ الْإِغْرَاءِ الَّذِي يُثَقِّلُ خُطُوَاتِهِ.
وَفِي صَبَاحٍ جَدِيدٍ، تَبَدَّدَتْ آخِرُ خُيُوطِ الْأَمَلِ. خَسَارَتُهُ لِلْعَمَلِ الْمُؤَقَّتِ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ فَقْدٍ لِلدَّخْلِ، بَلْ كَانَتْ ضَرْبَةً لِكَرَامَتِهِ. جَلَسَ مَحْمُودٌ عَلَى الرَّصِيفِ، بَيْنَ يَدَيْهِ حُزْنُ الْعَالَمِ، يَبْحَثُ عَنْ سَبَبٍ لِيُوَاصِلَ الْكِفَاحَ فِي عَالَمٍ لَا يَعْرِفُ الرَّحْمَةَ.
تَحْتَ سَمَاءِ اللَّيْلِ، وَفِي عُزْلَةِ غُرْفَةٍ صَغِيرَةٍ، وُلِدَ الْقَرَارُ. مَحْمُودٌ، الَّذِي ظَلَّ يُقَاوِمُ الظُّلْمَ، وَجَدَ نَفْسَهُ أَمَامَ خِيَارَيْنِ: أَنْ يُوَاصِلَ الْكِفَاحَ فِي صَمْتٍ، أَوْ أَنْ يُرْدِدَ عَلَى الْعَالَمِ بِصَوْتٍ مِنْ غَضَبٍ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، بَدَأَتِ الْحِكَايَةُ تَتَحَوَّلُ، وَبَدَأَ الظَّلَامُ يَأْخُذُ مَكَانَهُ فِي قَلْبِهِ.
فِي لَيْلَةٍ مَلْعُونَةٍ، وَجَدَ مَحْمُودٌ نَفْسَهُ مَتَّهَمًا فِي جَرِيمَةٍ لَمْ يَرْتَكِبْهَا. الشُّرْطَةُ، بِقَسْوَتِهَا وَظُلْمِهَا، جَرَّتْهُ إِلَى السِّجْنِ. هُنَاكَ، وَرَاءَ الْقُضْبَانِ، كَانَ الْبَرَاءَةُ كَلِمَةً فَارِغَةً، وَالْقَانُونُ لُعْبَةً لَا يَفُوزُ فِيهَا إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْقُوَّةَ.
دَاخِلَ جُدْرَانِ السِّجْنِ، وَجَدَ مَحْمُودٌ نَفْسَهُ مُحَاطًا بِرِجَالٍ اعْتَادُوا أَنْ يُصْنِعُوا قَوَانِينَهُمْ الْخَاصَّةَ. هُنَا، حَيْثُ الْعَدَالَةُ تُدَارُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَانَ عَلَى مَحْمُودٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَنْجُو… أَوْ أَنْ يَضِيعَ.
بِخُطُوَاتٍ مُتَرَدِّدَةٍ، بَدَأَ مَحْمُودٌ يَكْتَسِبُ مَهَارَاتٍ لَمْ يَكُنْ يَتَخَيَّلُ يَوْمًا أَنَّهُ سَيَحْتَاجُهَا. فَتْحُ الْأَقْفَالِ، التَّخَفِّي، وَالْهُرُوبُ… كُلُّ يَوْمٍ فِي السِّجْنِ كَانَ دَرْسًا جَدِيدًا فِي مَدْرَسَةِ الْجَرِيمَةِ.
بَيْنَ كَلِمَاتِ السُّجَنَاءِ، بَدَأَ مَحْمُودٌ يُدْرِكُ الْحَقِيقَةَ الْقَاسِيَةَ. الْمُجْتَمَعُ الَّذِي ظَلَمَهُ لَنْ يُمْنِحَهُ فُرْصَةً ثَانِيَةً. وَأَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ سِوَى مُعْرَكَةٍ، إِمَّا أَنْ تَرْبَحَهَا، أَوْ تَخْسَرَ نَفْسَكَ فِيهَا.
عِنْدَمَا خَرَجَ مَحْمُودٌ مِنَ السِّجْنِ، كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ. لَمْ تَعُدِ الْبَرَاءَةُ تَعْنِي شَيْئًا فِي عَالَمٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْجَمِيعُ بِشَكٍّ. كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ بَدَايَةً جَدِيدَةً، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أَرَادَهَا. فِي دَاخِلِهِ، كَانَ هُنَاكَ صِرَاعٌ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالْيَأْسِ، وَبَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالِانْتِقَامِ.
اللَّيْلُ كَانَ الشَّاهِدَ الْأَوَّلَ عَلَى تَحَوُّلِهِ. فِي زَاوِيَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَبَيْنَ حَدِيثٍ يَائِسٍ مَعَ أَحَدِ أَصْدِقَائِهِ، بَدَأَ مَحْمُودٌ أُولَى خُطُوَاتِهِ فِي طَرِيقٍ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ يَوْمًا أَنَّهُ سَيَسْلُكُهُ. الْجَرِيمَةُ، بِالنِّسْبَةِ لَهُ، أَصْبَحَتْ وَسِيلَةً لِلْبَقَاءِ فِي عَالَمٍ لَمْ يُمْنَحْهُ فُرْصَةً لِلْعَيْشِ بِكَرَامَةٍ.
فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، خَطَا مَحْمُودٌ أُولَى خُطُوَاتِهِ نَحْوَ الْعَالَمِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ. سَرِقَةٌ صَغِيرَةٌ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ بَدَايَةَ طَرِيقٍ طَوِيلٍ. طَرِيقٍ مَلِيءٍ بِالْخَطَرِ، وَبِالتَّحَوُّلِ الَّذِي سَيُغَيِّرُ حَيَاتَهُ لِلْأَبَدِ.
مَعَ كُلِّ سَرِقَةٍ، بَدَأَ مَحْمُودٌ يُدْرِكُ أَنَّ الْعَمَلَ وَحْدَهُ لَنْ يُجْلِبَ لَهُ مَا يُرِيدُ. كَانَ بِحَاجَةٍ لِشَرِيكٍ، شَخْصٍ يُسَاعِدُهُ فِي تَنْفِيذِ عَمَلِيَّاتٍ أَكْبَرَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ الثِّقَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَهَا ثَمَنٌ بَاهِظٌ.
فِي لَيْلَةٍ هَادِئَةٍ دَاخِلَ مَقْهًى شَعْبِيٍّ، جَلَسَ مَحْمُودُ مَعَ حَسَنٍ، الصَّدِيقِ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ جَيِّدًا. الْكَلِمَاتُ الْمَلِيئَةُ بِالثِّقَةِ وَالْحَمَاسِ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِقْنَاعِ مَحْمُودٍ بِخَوْضِ مُغَامَرَةٍ جَدِيدَةٍ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَامَرَةَ سَتَنْتَهِي بِخِيَانَةٍ سَتُغَيِّرُ حَيَاتَهُ لِلْأَبَدِ.
فِي لَيْلَةٍ هَادِئَةٍ، تَحَوَّلَتِ السَّرِقَةُ إِلَى مُطَارَدَةٍ. خِيَانَةُ الشَّرِيكِ كَانَتِ الصَّدْمَةَ الَّتِي أَعَادَتْ إِشْعَالَ غَضَبِ مَحْمُودٍ. كَانَ الْهُرُوبُ صَعْبًا، وَلَكِنَّ الْأَصْعَبَ كَانَ تَقَبُّلَ فِكْرَةِ أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ بَاعَهُ مِنْ أَجْلِ النَّجَاةِ.
فِي الْأَزِقَّةِ الضَّيِّقَةِ، كَانَ مَحْمُودٌ يَرْكُضُ بَحْثًا عَنْ مَهْرَبٍ، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ كَانَتْ تَقْتَرِبُ مِنْهُ أَسْرَعَ مِنَ الشُّرْطَةِ. صَدْمَةُ رُؤْيَةِ حَسَنٍ، صَدِيقِهِ وَشَرِيكِهِ، وَهُوَ يُشِي بِهِ، كَانَتْ أَقْسَى مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَتْهَا الشُّرْطَةُ عَلَى يَدَيْهِ. الْخِيَانَةُ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ، بَلْ كَانَتْ طَعْنَةً فِي الْقَلْبِ.
دَاخِلَ جُدْرَانِ الزِّنْزَانَةِ الْبَارِدَةِ، لَمْ يَكُنِ السِّجْنُ هُوَ الْعَدُوَّ الْحَقِيقِيَّ. كَانَ الْغَضَبُ. غَضَبُ مَحْمُودٍ مِنْ حَسَنٍ، وَمِنَ الْعَالَمِ الَّذِي سَمَحَ بِهَذِهِ الْخِيَانَةِ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، بَدَأَتْ فِكْرَةُ الِانْتِقَامِ تَتَسَلَّلُ إِلَى عَقْلِهِ، وَتَحَوَّلَتْ إِلَى وَعْدٍ لَنْ يُكْسَرَ.
حِينَ خَرَجَ مَحْمُودٌ مِنَ السِّجْنِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَكَانٌ لِلنَّدَمِ. الْخِيَانَةُ كَانَتِ الشَّرَارَةَ الَّتِي أَشْعَلَتِ النَّارَ دَاخِلَهُ. فِي عَيْنَيْهِ، كَانَ هُنَاكَ هَدَفٌ وَاحِدٌ… الِانْتِقَامُ. وَحَسَنٌ كَانَ الْبِدَايَةَ.
فِي الظِّلَالِ، وَاجَهَ مَحْمُودٌ صَدِيقَهُ الْقَدِيمَ. الْكَلِمَاتُ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً لِتَبْرِيرِ الْخِيَانَةِ، وَالْغَضَبُ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِإِطْفَاءِ الْأَلَمِ. فِي تِلْكَ الْمُوَاجَهَةِ، لَمْ يَكُنْ حَسَنٌ يَرَى صَدِيقَهُ الْقَدِيمَ، بَلْ وَحْشًا صُنِعَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْخِيَانَةِ.
.تَحْتَ ظِلَالِ اللَّيْلِ وَفِي مَنْزِلٍ غَارِقٍ فِي الصَّمْتِ، قَرَّرَ مَحْمُودٌ إِنْهَاءَ الْحِسَابِ مَعَ صَدِيقِهِ الْقَدِيمِ. لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُجَرَّدَ انْتِقَامٍ… بَلْ كَانَ وِلَادَةً لِشَخْصِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، قَاتِمَةٍ وَبَارِدَةٍ، لَا تَعْرِفُ الرَّحْمَةَ.
.بَيْنَ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ الْمُظْلِمَةِ، تَرَكَ مَحْمُودٌ خَلْفَهُ أُولَى خُطُوَاتِهِ فِي طَرِيقِ الْقَتْلِ. كَانَتْ تِلْكَ الْبِدَايَةَ… الْبِدَايَةَ لِطَرِيقٍ لَا عَوْدَةَ مِنْهُ.
تَحْتَ جُنْحِ اللَّيْلِ، دَخَلَ مَحْمُودٌ الْمَنْزِلَ بَاحِثًا عَنِ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَتُغَيِّرُ كُلَّ شَيْءٍ.
لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ فِي نِيَّتِهِ، وَلَكِنْ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الْفَزَعِ، انْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ بِجَرِيمَةٍ مُرَوِّعَةٍ هَزَّتِ الْمَدِينَةَ.
.فِي الصَّبَاحِ التَّالِي، كَانَتِ الصُّحُفُ تُعْلِنُ الْخَبَرَ.
مَحْمُودُ أَمِينُ سُلَيْمَانَ لَمْ يَعُدْ مُجَرَّدَ لِصٍّ هَارِبٍ… أَصْبَحَ رَمْزًا لِلرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي الْمَدِينَةِ. وَبَيْنَمَا كَانَتِ الْكَلِمَاتُ تَتَرَدَّدُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْجَمِيعِ، كَانَتِ الشُّرْطَةُ تَضَعُ خُطَّتَهَا لِلْإِيقَاعِ بِهِ.
فِي زَاوِيَةٍ مُظْلِمَةٍ مِنْ مَقْهًى شَعْبِيٍّ، كَانَ مَحْمُودٌ يَسْتَمِعُ بِصَمْتٍ.
الْكَلِمَاتُ الَّتِي سَمِعَهَا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ أَحَادِيثَ عَابِرَةٍ… كَانَتْ إِشَارَاتٍ لِهَدَفِهِ التَّالِي. لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ… بَلْ مِنْ أَجْلِ الْعَدَالَةِ الَّتِي صَمَّمَهَا بِيَدَيْهِ.
فِي قِسْمِ الشُّرْطَةِ، بَدَأَتِ الْحَقَائِقُ تَتَّضِحُ.
الْجَرَائِمُ لَمْ تَكُنْ عَشْوَائِيَّةً… كَانَ هُنَاكَ نَمَطٌ، وَكُلُّ الطُّرُقِ كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ: مَحْمُودُ أَمِينُ سُلَيْمَانَ. وَلَكِنَّ الْإِمْسَاكَ بِهِ لَنْ يَكُونَ بِالْأَمْرِ السَّهْلِ.
مَعَ كُلِّ جَرِيمَةٍ، كَانَ مَحْمُودٌ يَقْتَرِبُ أَكْثَرَ مِنْ حَافَّةِ الْهَاوِيَةِ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَبْحَثُ عَنْ النَّجَاةِ… كَانَ يَبْحَثُ عَنِ الْعَدَالَةِ الَّتِي يَرَاهَا بِعَيْنَيْهِ فَقَطْ. وَمَعَ تَصَاعُدِ الْمُطَارَدَةِ، كَانَتِ النِّهَايَةُ تَقْتَرِبُ.
فِي شَوَارِعِ الْحَيِّ الشَّعْبِيِّ الْمُزْدَحِمَةِ، كَانَ مَحْمُودٌ يَعْرِفُ كَيْفَ يُخْفِي نَفْسَهُ بَيْنَ النَّاسِ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ، كَانَتِ الشُّرْطَةُ أَقْرَبَ مِمَّا تَوَقَّعَ. بَدَأَتِ الْمُطَارَدَةُ، وَمَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ، كَانَ مَحْمُودٌ يُثْبِتُ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ هَارِبٍ… بَلْ سَيِّدٌ فِي لُعْبَةِ الْبَقَاءِ.
فِي الشَّوَارِعِ الْمُكْتَظَّةِ بِالنَّاسِ، بَدَأَ الْفَصْلُ الْأَخِيرُ مِنَ الْمُطَارَدَةِ.
كَانَتِ الشُّرْطَةُ عَلَى بُعْدِ خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِلِاسْتِسْلَامِ بَعْدُ. الْمُوَاجَهَةُ كَانَتْ قَادِمَةً، وَكَانَ مَحْمُودٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ جَيِّدًا.
بِذَكَاءٍ فِطْرِيٍّ وَهُدُوءٍ تَحْتَ الضَّغْطِ، تَمَكَّنَ مَحْمُودٌ مِنَ الِاخْتِبَاءِ فِي أَوْضَحِ الْأَمَاكِنِ.
كَانَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَحَوَّلُ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزِّحَامِ، وَكَيْفَ يَجْعَلُ الشُّرْطَةَ تُلَاحِقُ السَّرَابَ.
عَلَى الْأَسْطُحِ الْعَالِيَةِ، كَانَتِ الْمُطَارَدَةُ تَتَحَوَّلُ إِلَى سِبَاقِ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ.
الشُّرْطَةُ كَانَتْ تُلَاحِقُهُ بِلَا هَوَادَةٍ، لَكِنَّهُ كَانَ دَائِمًا أَسْرَعَ، وَأَذْكَى، وَأَكْثَرَ تَصْمِيمًا عَلَى الْهُرُوبِ.
فِي قَلْبِ السُّوقِ الشَّعْبِيِّ، كَانَ مَحْمُودٌ يَجِدُ الْأَمَانَ.
النَّاسُ، الَّذِينَ رَأَوْا فِي الشُّرْطَةِ عَدُوًّا مُشْتَرَكًا، كَانُوا يُغْلِقُونَ أَعْيُنَهُمْ عَلَى وُجُودِهِ. بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ، كَانَ مَحْمُودٌ رَمْزًا لِلتَّمَرُّدِ عَلَى نِظَامٍ لَا يَفْهَمُهُمْ.
حَتَّى فِي أَحْلَكِ اللَّحَظَاتِ، عِنْدَمَا كَانَتِ الشُّرْطَةُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، كَانَ مَحْمُودٌ يُظْهِرُ مَهَارَةً لَا مَثِيلَ لَهَا فِي التَّفْكِيرِ السَّرِيعِ.
كُلُّ مُحَاوَلَةٍ لِلْإِيقَاعِ بِهِ كَانَتْ تَنْتَهِي بِالْخَيْبَةِ، تَارِكَةً الشُّرْطَةَ تَتَسَاءَلُ عَنِ الْخُطْوَةِ التَّالِيَةِ.
مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ، كَانَ مَحْمُودٌ يُدْرِكُ أَنَّ الْحِصَارَ يَضِيقُ حَوْلَهُ.
لَكِنَّ عَقْلَهُ كَانَ يَعْمَلُ بِلَا تَوَقُّفٍ. خُطَّةٌ جَدِيدَةٌ، طَرِيقٌ جَدِيدٌ، وَأَمَلٌ أَخِيرٌ فِي الْهُرُوبِ مِنَ الْمَدِينَةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ سِجْنًا كَبِيرًا.
مَعَ تَصَاعُدِ الْمُطَارَدَةِ، أَصْبَحَ مَحْمُودٌ أَكْثَرَ خُطُورَةً… وَأَكْثَرَ عُزْلَةً.
كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ النِّهَائِيَّةَ كَانَتْ مَسْأَلَةَ وَقْتٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِلِاسْتِسْلَامِ بَعْدُ.
بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنَ الْمُطَارَدَةِ، جَاءَتِ اللَّحْظَةُ الْحَاسِمَةُ. فِي مَنْطِقَةٍ نَائِيَةٍ، وَضَعَتِ الشُّرْطَةُ خُطَّتَهَا، مُدْرِكَةً أَنَّ أَيَّ خَطَأٍ قَدْ يُكَلِّفُهُمُ الْفُرْصَةَ الْوَحِيدَةَ لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ.
دَاخِلَ الْمَبْنَى الْمَهْجُورِ، كَانَتِ الْأَنْفَاسُ مُتَقَطِّعَةً وَالْعُيُونُ مُتَرَقِّبَةً. مَحْمُودُ، الَّذِي رَفَضَ الِاسْتِسْلَامَ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُوَاجَهَةَ سَتَكُونُ الْأَخِيرَةَ. الشُّرْطَةُ كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِلِانْحِنَاءِ.
مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ اقْتَرَبَتْ مِنْهُ الشُّرْطَةُ، وَمَعَ كُلِّ طَلْقَةٍ أُطْلِقَتْ، كَانَ مَحْمُودٌ يُقَاوِمُ حَتَّى النِّهَايَةِ. وَلَكِنْ عِنْدَمَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَكُنْ جَسَدُهُ فَقَطْ هُوَ الَّذِي انْهَارَ… بَلْ أُسْطُورَةُ السَّفَّاحِ الَّذِي أَرْعَبَ الْجَمِيعَ.
فِي الشَّوَارِعِ، كَانَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ نِهَايَتِهِ كَعِبْرَةٍ، وَلَكِنْ فِي قُلُوبِ الْبَعْضِ، كَانَ هُنَاكَ سُؤَالٌ عَالِقٌ: هَلْ كَانَ مَحْمُودُ ضَحِيَّةَ نِظَامٍ قَاسٍ؟ أَمْ أَنَّهُ اخْتَارَ بِنَفْسِهِ طَرِيقَ الظَّلَامِ؟
قِصَّةُ مَحْمُودِ أَمِينِ سُلَيْمَانَ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ عَنْ مُجْرِمٍ. كَانَتْ مِرْآةً تَعْكِسُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ الظُّلْمُ وَالْقَهْرُ إِلَى وُقُودٍ لِلِانْتِقَامِ. وَبَيْنَمَا يُغْلِقُ هَذَا الْفَصْلُ مِنَ التَّارِيخِ، تَبْقَى الْأَسْئِلَةُ بِلَا إِجَابَاتٍ… وَالْأُسْطُورَةُ بِلَا رَاحَةٍ.
فِي صَبَاحٍ جَدِيدٍ، تَحَوَّلَتْ قِصَّةُ مَحْمُودٍ إِلَى عَنَاوِينِ تَتَصَدَّرُ الصُّحُفَ. الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ فَقَطْ عَنْ نِهَايَتِهِ، بَلْ عَنْ جَرَائِمِهِ الَّتِي أَرْعَبَتِ الْجَمِيعَ. بَيْنَ السُّطُورِ، كَانَتِ الصُّحُفُ تَرْسُمُ صُورَةَ السَّفَّاحِ الَّذِي أَصْبَحَ حَدِيثَ الشَّارِعِ وَالْمُجْتَمَعِ.
وَلَكِنْ، مِنْ بَيْنِ كُلِّ الْقِصَصِ، كَانَتْ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ تُلْهِمُ الْأَجْيَالَ. نَجِيبُ مَحْفُوظٌ، الْكَاتِبُ الَّذِي الْتَقَطَ رُوحَ الْقِصَّةِ، حَوَّلَهَا إِلَى رِوَايَةٍ خَالِدَةٍ. ‘اللِّصُّ وَالْكِلَابُ’ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ عَنْ جَرِيمَةٍ، بَلْ عَنْ إِنْسَانٍ يَبْحَثُ عَنِ الْعَدَالَةِ وَسَطَ عَالَمٍ ظَالِمٍ.
مَحْمُودٌ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ سَفَّاحٍ… كَانَ انْعِكَاسًا لِلظُّلْمِ وَالْقَهْرِ. رِحْلَةُ حَيَاتِهِ كَانَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بَيْنَ الْأَمَلِ وَالْيَأْسِ. وَفِي كُلِّ خُطْوَةٍ، كَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ جُرْحًا لَمْ يَلْتَئِمْ.
وَفِي نِهَايَةِ الْحِكَايَةِ، تَبْقَى الْأَسْئِلَةُ. هَلْ كَانَ مَحْمُودُ ضَحِيَّةً أَمْ مُجْرِمًا؟ هَلْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ حَيَاتُهُ لَوْ وَجَدَتِ الْعَدَالَةُ طَرِيقَهَا إِلَيْهِ؟ وَبَيْنَمَا تَمُرُّ الْأَيَّامُ، تَبْقَى قِصَّتُهُ تُذَكِّرُنَا بِحَقِيقَةٍ قَاسِيَةٍ… أَنَّ الظُّلْمَ يُولِّدُ الْغَضَبَ، وَالْغَضَبَ قَدْ يَقُودُ إِلَى الدَّمَارِ.
قِصَّةُ مَحْمُودٍ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ مِنَ الْمَاضِي. إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِلتَّفْكِيرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ أَكْثَرَ عَدْلًا، حَيْثُ لَا يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ إِلَى ضَحِيَّةٍ أَوْ جَلَّادٍ. وَمِنْ خِلَالِ الْأَدَبِ وَالْفَنِّ، تَبْقَى الْقَصَصُ حَيَّةً… تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا رَسَائِلَ لَا تُنْسَى.