جريمةُ القتلِ في قطارِ الصعيدِ : لغزٌ وسطَ الركابِ

على متنِ قطارِ الصعيدِ المتجهِ إلى أسوانَ، وفي ظلامِ الليلِ الدامسِ، دوى صراخٌ مزقَ هدوءَ العرباتِ. جريمةُ قتلٍ غامضةٌ، وقعتْ بينَ الركابِ، أثارتِ الرعبَ والشكوكَ. منِ القاتلُ؟ وكيفَ تمكنَ منِ الهروبِ وسطَ تحرُّكِ القطارِ؟ أسرارٌ مذهلةٌ ستكتشفونها في جريمةِ القتلِ في قطارِ الصعيدِ!
في يومٍ خريفيٍّ هادئٍ من عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةٍ وخمسينَ، كانَ قطارُ الصعيدِ مكتظًّا بالركابِ. عائلاتٌ تحملُ معها حقائبَ السفرِ، وتجارٌ يحملونَ بضائعَهم، ووجوهٌ مختلفةٌ تتشاركُ في هذهِ الرحلةِ الطويلةِ.
في العربةِ الثالثةِ، كانت الأجواءُ مزيجًا من الهدوءِ والأحاديثِ المتفرقةِ. على أحدِ المقاعدِ، كان يجلسُ عبدُ الحميدِ كامل ، رجلٌ في أواخرِ الأربعينياتِ من عمرِه، يرتدي بدلةً أنيقةً ويحملُ حقيبةً صغيرةً بجوارهِ. لم يكنْ أحدٌ يعلمُ أنَّ هذهِ الحقيبةَ تحملُ سرًّا كبيرًا.
في نفسِ العربةِ، كانت هناكَ سعادُ حسينُ ، امرأةٌ في الثلاثينياتِ من عمرِها، تبدو قلقةً ومشتتةً. بجانبِها كان يجلسُ حسنُ عبدُ العزيزِ ، شابٌّ يبدو كأنَّهُ تاجرٌ من الجنوبِ، يحملُ حقيبةً كبيرةً مليئةً بالمنتجاتِ.
بينَ الركابِ كان الجميعُ منشغلًا، إمّا بالحديثِ أو بالنظرِ من نوافذِ القطارِ بينما يتحركُ بسرعةٍ بينَ الحقولِ والمزارعِ. لكن في الخلفِ، كانت هناكَ مقصورةٌ خاصةٌ يجلسُ فيها رجلٌ غامضٌ ، يُدعى مرادُ الصاوي ، يراقبُ الركابَ بصمتٍ، وكأنَّهُ يخططُ لشيءٍ ما.
مع حلولِ الليلِ، وهدوءِ القطارِ، بدأ الركابُ يتجهونَ للنومِ أو يستريحونَ في أماكنِهم. فجأةً، انطلقَ صوتُ صراخٍ قويٍّ من العربةِ الثالثةِ. ركابُها استيقظوا في ذعرٍ ليكتشفوا أنَّ عبدَ الحميدِ كاملً وُجدَ مطعونًا بسكينٍ، والدماءُ تغطي ملابسَهُ.
الصدمةُ أصابت الجميعَ. منِ القاتلُ؟ وكيفَ تمكنَ من تنفيذِ الجريمةِ وسطَ الركابِ دونَ أن يلاحظَهُ أحدٌ؟
مع توقُّفِ القطارِ في إحدى المحطاتِ، صعدت الشرطةُ للتحقيقِ. الضابطُ شاكرُ إبراهيمُ ، قائدُ فريقِ التحقيقِ، بدأ باستجوابِ الركابِ.
كان الجميعُ في حالةٍ من الذهولِ والخوفِ. الأدلةُ الأوليةُ أشارتْ إلى أنَّ الجريمةَ وقعتْ بسرعةٍ وبمهارةٍ، مما يعني أنَّ القاتلَ قد يكونُ محترفًا. لكن لماذا قُتلَ عبدُ الحميدِ؟ وهل هناكَ دافعٌ وراءَ هذهِ الجريمةِ؟
أثناءَ تفتيشِ حقيبةِ عبدِ الحميدِ، وُجدَ بداخلِها مجموعةٌ من الوثائقِ المهمةِ ومبلغٌ كبيرٌ من المالِ. أحدُ الركابِ أشارَ إلى أنَّهُ رآهُ يتحدثُ مع مرادِ الصاوي ، الرجلِ الغامضِ، قبلَ ساعاتٍ من الجريمةِ.
مرادٌ تمَّ استدعاؤهُ للاستجوابِ، لكنهُ نفى أيَّ علاقةٍ بالجريمةِ. قال إنَّهُ مجردُ رجلِ أعمالٍ كان يراقبُ الركابَ لتسليةِ نفسِهِ أثناءَ الرحلةِ.
وسطَ الفوضى والخوفِ الذي يسيطرُ على عرباتِ القطارِ، بدأ الضابطُ شاكرُ إبراهيمُ في تضييقِ الخناقِ على المشتبهِ بهمِ.
الدلائلُ الأولى أشارتْ إلى حسنِ عبدِ العزيزِ ، التاجرِ الذي بدا متوترًا خلالَ الاستجوابِ. أحدُ الركابِ أكّدَ أنَّهُ رأى حسنًا يتحدثُ مع عبدِ الحميدِ كاملٍ قبلَ ساعاتٍ من الجريمةِ، بل وشاهدهُ يحملُ حقيبةً صغيرةً مشابهةً لتلكَ التي كانتْ بجانبِ الضحيةِ.
عندما تمَّ تفتيشُ حقيبةِ حسنٍ، وُجدَ فيها سكينٌ صغيرٌ عليهِ آثارُ دماءِ. كان هذا الاكتشافُ كافيًا لإثارةِ الشكوكِ.
حسنٌ حاولَ الدفاعَ عن نفسِهِ، زاعمًا أنَّهُ وجدَ السكينَ في العربةِ وأخذهُ ليتخلصَ منهُ لاحقًا، لكنهُ لم يستطعْ تفسيرَ وجودِ بصماتِه عليهِ.
صرخَ بصوتٍ متحشرجٍ: ‘أنا بريءٌ! لم أقتلهُ!
الشرطةُ، تحتَ ضغطِ الوقتِ، بدأتْ تجمعُ إفاداتِ الركابِ حولَ تحركاتِ حسنٍ. معظمُ الركابِ أكّدوا أنَّهم لاحظوا توترَهُ، لكن لم يكنْ هناكَ دليلٌ قاطعٌ يثبتُ أنَّهُ القاتلُ.
رغمَ ذلكَ، تمَّ احتجازهُ مؤقتًا كونهُ المشتبهَ الرئيسيَّ، وظلَّ الجميعُ مقتنعًا بأنَّ القضيةَ قد أُغلقت.
بينما استمرتِ الشرطةُ في التحقيقِ، ظهرتْ أدلةٌ جديدةٌ قلبتْ كلَّ التوقعاتِ. أثناءَ تفتيشٍ دقيقٍ لمقصورةِ الأمتعةِ، عُثرَ على دفترِ مذكراتٍ صغيرٍ يعودُ إلى الضحيةِ.
الدفترُ احتوى على أسماءٍ وأرقامٍ، بينها اسمٌ مثيرٌ للريبةِ: مرادُ الصاوي .
كان هذا الرجلُ قد أصرَّ طوالَ التحقيقاتِ على أنَّهُ مجردُ رجلِ أعمالٍ مسافرٍ، لكنَّ أحدَ الركابِ أفادَ بأنَّهُ رأى مرادَ يتسللُ بينَ العرباتِ في وقتِ الجريمةِ، وهوَ أمرٌ أثارَ الشكوكَ.
مع الضغطِ عليهِ في جلسةِ استجوابٍ جديدةٍ، انهارَ مرادُ واعترفَ أنَّهُ كان في القطارِ للبحثِ عن عبدِ الحميدِ. السببُ؟ عبدُ الحميدِ كان يحملُ مستنداتٍ سريةً تكشفُ عن عمليةِ احتيالٍ كبيرةٍ شاركَ فيها مرادُ.
كان مرادُ قد أرسلَ رسالةً تهديديةً إلى عبدِ الحميدِ قبلَ الرحلةِ، يحذرُهُ فيها من كشفِ المستنداتِ، لكنهُ لم يكنْ يتوقعُ أن يلتقيا صدفةً في القطارِ.
عندما رآهُ في العربةِ الثالثةِ، شعرَ مرادُ بالخطرِ، وقررَ مواجهتَهُ. استغلَّ ازدحامَ القطارِ وصخبَ الركابِ، ودخلَ في مشادةٍ كلاميةٍ معهُ في الممرِ بينَ العرباتِ.
لكنَّ الأمورَ تصاعدتْ بسرعةٍ، وعندما حاولَ عبدُ الحميدِ المقاومةَ، استغلَّ مرادُ انشغالَ الركابِ وقامَ بطعنهِ بسكينٍ صغيرةٍ كان يحتفظُ بها في جيبِه.
المثيرُ أنَّ السكينَ التي وُجدتْ بحوزةِ حسنٍ كانتْ خدعةً متعمدةً. بعدَ ارتكابِ الجريمةِ، ألقى مرادُ السكينَ الحقيقيَّ في ممرِّ القطارِ ووضعَ واحدةً مشابهةً في حقيبةِ حسنٍ أثناءَ نومِهِ، ليبعدَ الأنظارَ عن نفسِهِ.
بعدَ الكشفِ عن خدعةِ السكينِ، تأكدتِ الشرطةُ أنَّ حسنًا بريءٌ تمامًا، وأنَّ مرادَ الصاوي هوَ العقلُ المدبرُ للجريمةِ.
الدافعُ كانَ واضحًا: حمايةُ مصالحهِ الماليةِ والإجراميةِ من الفضيحةِ.
في جلسةِ المحاكمةِ، انهارَ مرادُ واعترفَ بكلِّ شيءٍ، موضحًا كيفَ استغلَّ الفوضى داخلَ القطارِ لتنفيذِ جريمتِهِ، متوقعًا أنَّ ازدحامَ الركابِ سيغطي على تحركاتِهِ.
أما حسنٌ، فقد تمَّ إطلاقُ سراحهِ بعدَ إثباتِ براءتِهِ، لكنهُ ظلَّ يعاني من صدمةِ الاتهامِ الذي وُجهَ إليهِ ظلمًا.
مرادُ الصاوي حُكمَ عليهِ بالإعدامِ بتهمةِ القتلِ العمدِ مع سبقِ الإصرارِ، وأغلقتِ القضيةُ التي شغلتِ الرأيَ العامَ.
بينما عادَ الركاب الى حياتهم الطبيعيةِ، بقيتْ ذكرى تلكَ الليلةِ المروعةِ محفورةً في أذهانِ الركابِ. كيفَ يمكنُ أنْ تتحولَ رحلةٌ عاديةٌ إلى مسرحٍ لجريمةٍ غامضةٍ؟
لكنَّ القصةَ لم تكنْ مجردَ جريمةِ قتلٍ، بل كانتْ تذكيرًا بمدى تعقيدِ الطبيعةِ البشريةِ، وكيفَ يمكنُ للطمعِ والخوفِ أنْ يدفعا شخصًا لارتكابِ أسوأِ الجرائمِ.